1- أن الحجاب فُرض لتمييز الحرائر عن الإماء، ويستدلون بقوله تعالى: "ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب: 59)، فقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أن الحجاب كان خاصا بالحرائر دون الإماء، ومنهم الطبري والرازي والبيضاوي والقرطبي والزمخشري، وبناء عليه فإن أصحاب هذه الدعوى يفترضون أن الحجاب لم يعد حكما واجبا اليوم، إذ انتهى عهد الرق ولم تعد هناك حاجة للتمييز بين الحرائر والإماء.
في الجهة المقابلة، لا نجد في كتب أي من المفسرين من قال بذلك، بل إنهم لم يستندوا في إيراد هذه العلة إلا إلى أخبار لم يُجزم بصحتها، ومنها أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء إذا رآهن متحجبات قائلا: "اكشفن رؤوسكن ولا تتشبهن بالحرائر". مع أن مقاصد الشريعة تتناقض مع هذا التمييز بين الحرة والأمة، والذي يقتضي غض الطرف عن الأذى الذي قد تتعرض له الأمة والتساهل معه، في الوقت الذي تتكاثر فيه الأحاديث على المساواة بين الحر والعبد مما لا يختلف عليه اثنان.
على أي حال، فإن المفسرين الذين سردوا هذه الأخبار في كتبهم من باب التحقيق والأمانة العلمية لم يجنحوا إلى عدّ التمييز بين الحرة والأمة كعلة وحيدة لفرض الحجاب، فالآيات التي تنص على وجوب الحجاب تتضمن عللاً أخرى أكثر وضوحاً مما سيأتي بيانه، فلا يصح بذلك الاكتفاء بهذه العلة والاحتجاج بعدم بقائها في هذا العصر.
بالرغم من ذلك، فإننا إن سلمنا بأن التمييز هو العلة الوحيدة، فإن الأذى (التحرش) الذي تتعرض له الحرائر السافرات اليوم لا يختلف في شيء عن الذي كان يعرض للإماء من قبل، مما يدفعنا للتفكير في علة أخرى تكون في صالح المرأة نفسها، سواء كانت حرة أم أمة.
2- أن الحجاب قد فُرض لتربية المرأة والحفاظ على أخلاقها من الانحراف، ويتشدق أصحاب هذا الرأي دائما بأمثلة لا تحصى عن فتيات محجبات غير أخلاقيات، في مقابل فتيات يتمتعن بالأخلاق العالية دون أن يضعن الحجاب على رؤوسهن.
وهذا رأي عجيب لا ندري ما المبرر لإلزامنا به، إذ لا يجد الباحث في النصوص أو التراث أي دليل عليه، ولم نسمع أحدا من الفقهاء قد أصدر حكمه بتغطية أجساد النساء لتتهذب أخلاقهن، بل تنص الآيات بوضوح على أن العلة الأولى هي حماية المرأة من الأذى، بغض النظر عن أخلاقها التي لا يمكن تقويمها إلا بالتربية، أما الحجاب فهو إجراء احترازي لحماية الرجل من الفتنة، وحماية المرأة من مضاعفات هذه الفتنة، وهو فرض على جميع النساء بغض النظر عن أي اعتبار ديني أو أخلاقي أو اجتماعي.
3- أن الحجاب أداة سياسية، ابتكرها الإسلاميون للتلويح بها في وجه خصومهم، ويتبع ذلك إطلاق مصطلحات عجيبة من قبيل: ثقافة الحجاب، ومؤسسة الحجاب!
ومن الواضح للعيان أن هذه الحجة لا يمضي أصحابها في عرضها إلى أبعد من ذلك، بل لا يملكون من الأدلة عليها إلا دعوة الناشطين الإسلاميين في عالم السياسة إلى الحجاب، دون أن يلحظوا أن هؤلاء الناشطين يهتمون أيضا بالدعوة إلى الصلاة والصوم وغيرها من أحكام الإسلام، فضلا عن استماتتهم في الدفاع عن الأوطان وفضح أطماع الأعداء، ولكن العجيب هو أن أيا من هذه الدعوات لم يحظ بذلك الاهتمام العلماني الذي حظي به الحجاب.
علاوة على ذلك، فإن أصحاب هذه النظرية لم ينتبهوا إلى أن الحجاب يستند إلى نص قرآني يتداوله المسلمون منذ أربعة عشر قرنا، فما المبرر إذن لتحميله بعدا سياسيا لا يمتد إلى ما هو أبعد من ثمانين عاما خلت، حين بدأت الحركات الإسلامية بالتشكل؟.. بل ما هي العلة التي يرون أنها السبب في التزام ملايين المسلمات في مجتمعات لا تصل إليها أنشطة تلك الحركات الإسلامية؟ أم لعلهم ينسبون إلى هؤلاء الناشطين قوى خارقة في التلاعب بعقول تلك الملايين؟
4- أنه فُرض على المرأة لاضطهادها من قبل الرجال، والدليل الذي يتمسك به أصحاب هذه النظرية هو اقتصار الحجاب على المرأة دون الرجل، إذ يدفعهم ذلك لافتراض استغلال "طبقة" الفقهاء من الرجال لبعض النصوص بهدف تفسيرها على نحو يرسخ نظرتهم الظالمة للمرأة.
والعجيب في الأمر هو تجاهل هؤلاء للحال الذي كانت عليه النساء في عصر نزول هذه النصوص، إذ نزلت آية الحجاب قبل وجود "طبقة الفقهاء"، والتزمت بها النساء فور سماعهن بها.
أخرج أبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة: "إن نساء قريش لفضلي، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان." وقد ورد الحديث بأكثر من رواية بعضها في صحيح البخاري.
وليس في الحديث كما نرى أي دليل على اضطهاد أو إكراه من جنس لآخر، بل لم يكن للفقهاء هنا أي دور في تفسير هذه الآية التي تنص بوضوح على وجوب الخمار، إذ بادرت النساء على الفور بتنفيذ أمر الله فور علمهن به، لكونه أمرا من الله تعالى لا من الرجال.
أما عن كون هذا الحكم خاصا بالمرأة دون الرجل، فهذا مما لا يحتاج إلى كبير جهد لبيان علته، فلا يختلف اثنان على أن الرجل يفتتن بكل ما يظهر من جمال المرأة، في الوقت الذي تضع فيه المرأة وسامة الرجل في درجات ثانوية، تأتي بعد اهتمامها بشخصيته وعلمه وماله وغير ذلك، بل إنه من المألوف جدا أن يقترن الرجل بمن تصغره سنا، وأن تصرف المرأة جل وقتها لإخفاء معالم الشيخوخة حفاظا على مكانتها في قلب الرجل، دون أن يكلف الرجل نفسه عناء ذلك.
5- أنه وسيلة لعزل المرأة المسلمة في الغرب عن مجتمعها العلماني ولتمييزها عن غيرها من النساء.
ولا يمضي أصحاب هذه النظرية أيضا إلى ما هو أبعد من ذلك، بل يكتفون بضرورة انصهار النساء جميعا في بوتقة واحدة، إذ يرون أن الرجل المسلم لا يختلف في مظهره عن غيره من الرجال، مما يعني ضرورة إجبار المرأة المسلمة أيضا على عدم ظهورها بما يميزها عن غيرها من النساء.
ويتابع هؤلاء بافتراض كون الحجاب رمزا دينيا، ثم يلحقونه بافتراض آخر يماثله عند الرجل المسلم وهو إطلاق لحيته، ومن ثمّ فإن كلاً من هذين الرمزين يُعدان إشارة إلى كون من يلتزم بهما من "طبقة رجال الدين"، ولا يمكن للطبقات الأخرى من المجتمع أن تشترك مع هؤلاء في المظهر.
إن هذا التصور نابع من موقف الغرب من الدين أولا، ومن مفهومه الخاص لدور الدين ورجاله ثانيا.
فالموقف الغربي من الدين اليوم قائم جملة وتفصيلا على تاريخ طويل من الصراع، إذ ارتبطت صورة الكنيسة طوال قرون بشتى ألوان الاضطهاد والظلام والتخلف، وهذا مما لم يعهد له المسلمون مثيلا في تاريخهم.
أما مفهوم طبقة رجال الدين فقائمة أيضا على خصوصية الدين المسيحي في المجتمع الأوربي، إذ لا يوجد الدين هناك إلا مع وجود مؤسسة كنسية يديرها رجال ونساء منتدبون لهذه المهمة، وهم طبقة من الرهبان والراهبات الذين نذروا حياتهم للدين دون غيره، فلا يمكن الجمع بين هذه المهمة وبين غيرها، بل لا يسمح لأفراد هذه الطبقة بممارسة مهماتهم خارج نطاق المؤسسة.
وهذا تصور لا نجد مثيله أيضا في الإسلام، فليست هناك مؤسسة دينية ولا تنظيم ديني للعاملين فيها، بل هناك مساجد للعبادة والعلم، وعلماء لا يختلفون عن غيرهم سوى بقدراتهم العقلية والنفسية، وعلمهم متاح للجميع طلباً وبذلاً. أما الالتزام بالدين في مظاهره وسلوكه وعقيدته فهو أمر مطلوب من كل المسلمين دون تمييز، وعليه فإن إعفاء اللحى واجب على كل الرجال، كوجوب الحجاب على كل النساء.
بناء على ذلك، فإن المسلم ملزم بالتقيد بهذه الواجبات في كل زمان ومكان، بناء على أمر إلهي ليس لأحد من الناس فيه أي دور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، دون التفات إلى مستوى علمهم ومكان إقامتهم وطبيعة مهنتهم.
6- أن الحجاب في حد ذاته ليس بالأمر المهم، بل هو مجرد أداة ضغط يتلاعب بها الإسلاميون لإبرازها عند الحاجة، مستهدفين بذلك إثارة القلاقل وصرف الأنظار عما هو أهم.
وقد يلاحظ كل من قُدر له الاطلاع على كتابات هذا النوع من الكتاب أن الأمور المهمة هي تلك التي تتعلق بالفقر والبطالة والوضع الاقتصادي للمجتمع، أما إذا ارتفع مستوى الاهتمام قليلا عن المادة فإن الأهمية لا تتعدى حقوق المرأة الأخرى من ضرورة رفع الظلم عنها، وتعليمها، ومساواتها التامة بالرجل.
وإذا كان الإسلام هو أولى الدعاة بإحقاق الحق ورفع الظلم ونشر العلم، فإن الخلط هنا ليس قاصرا على مفهوم هؤلاء للمساواة الذي لا يراد منه تحويل المرأة إلى رجل كما يُخيل إلى البعض، ولا حتى العبث بأنوثتها، بل إن ترتيب الأمور على هذا النحو من الأهمية لا يقوم لديهم على أكثر من تصورهم العلماني للحياة، فالحوار هنا لا يصح أن يظل حبيس وجهات النظر حول المهم والأهم، ما لم نتفق أولاً على تصور واضح لوجود حياة أخرى بعد هذه الدنيا أو لا.
عند ذلك، يصبح الحديث عن البطالة والفقر مجرد شغب وصرف للأنظار عن هذه القضية، إذ لم يقدم لنا أحد من هؤلاء بين يدي دعواه ما يدل على أن الاهتمام بالعفة والأخلاق يتنافى مع اهتمامنا المشترك بالتنمية ومحاربة الفقر، أما إذا كان همّهم مقصوراً على هذا الجانب المادي من الإنسان، فليأخذ الحوار إذن منحاه الحقيقي، وليُترك أمر العفة وما يقوم عليه من تماسك البنيان الاجتماعي للمختصين، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
لماذا فُرض الحجاب إذن؟
لا يختلف اثنان على أن التشريع في الإسلام لا يصدر إلا عن القرآن والسنة، وقد وردت آيات وجوب الحجاب في القرآن الكريم بوضوح لا يرقى إليه شك، ويمكن جمعها على النحو الآتي:
(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 30-31).
(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:60).
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53).
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب: 59).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق